لماذا فرانز كافكا؟!… ولماذا رواية المسخ؟!

لماذا فرانز كافكا...؟ ولماذا رواية التحوُّل...؟!

لماذا فرانز كافكا..؟! ولماذا رواية التحوُّل؟!

لماذا فرانز كافكا ؟! ولماذا رواية المسخ ؟! نستعرض في هذا المقال الشيق، وجه التشابه بين حياة فرانز كافكا الكابوسية، وبين روايته الأشهر المسخ ، أو التحوُّل كما تذكر بعض الترجمات…

ليس هناك أدنى شك في أن من يهتم بدراسة كل ما يتعلق بكافكا، سواء بحياته أو بكتاباته، يجد صعوبة كبيرة في أن يتركه يومًا ما، ذلك لأن سبر أغوار هذا الرجل لهو نوع من أنواع الإدمان، نعم، من يدخل نفق البحث عن كافكا يجد صعوبة بالغة في التوقف. ويتفاجيء أنه أصبح مدمنًا عليه. لماذا؟ أعتقد أنك تستطيع أن تسأل هذا السؤال لأي شخص آخر غيري؛ فأنا، لحسن حظي، أحد المدمنين الذين قرروا يومًا ما – منذ عشر سنوات – أن نسبر أغوار فرانز كافكا، والبحث والتنقيب في حياته المليئة بالأحداث والمفارقات التي أنتجت في النهاية كاتبًا فريدًا من نوعه، وخلقت منه رائدًا للكابوسية، وأفضل كاتب سوداوي في التاريخ.

هذا بالإضافة إلى علاقاته النسائية، سواء علاقته بـ “فيليس بيير” أو بـ “ميلينا” .. علاوة على علاقته بوالده، والتي شكَّلت منه كافكا الذي نعرفه. كل شخص مرَّ بجدار حياته وضع فيه قالبًا ليصبح في النهاية كاتبًا ذو طراز فريد، كاتبًا يملك القدرة على خلق حالة خاصة في كتاباته، حالة لا يستطيع خلقها إلا فرانز كافكا.

أدب الرسائل

والجدير بالذكر هنا وجود رسائل بينه وبين كل هؤلاء، سواء رسائل متبادلة مثل رسائله الشهيرة مع ميلينا يزينسكا، أو رسائل كتبها يشكو فيها ما عاناه وعاينه، مثل تلك الرسائل التي كتبها إلى والده، يصف فيها كيف كان يعامله. وماذا كان يشعر حين كان صبيًا صغيرًا يعيش معه.

والجدير بالذكر أيضًا أن كل تلك الرسائل قد تم دراستها وتحليلها بدقة، من قبل كبار النقاد في الجامعات حول العالم، ومن قبل المهتمين بالأدب عمومًا. وقد قال أحد النقاد في كتابات كافكا، جملة أجدها دقيقة جدًا في معناها، يقول:

كتابات كافكا هي ضربة فأس ضد البحر المتجمد فينا!

فرانز كافكا

سوداوية كافكا

وتظهر سوداوية فرانز كافكا بوضوح، في روايته القصيرة الأشهر، “المسخ” أو كما ترجمها البعض “التحوُّل” وحينما تقرأ هذه القصة أو الرواية القصيرة ستجد أنك أمام كاتب يملك قلم فريد، كاتب ذو بصمة خاصة لم ولن تتكرر مرة أخرى. وقد اعتبر “فلاديمير نابوكوف” أن رواية التحوُّل أحد أهم الروائع الأدبية في القرن العشرين قاطبة، وإن اضطررت أن أطرح وجهة نظري الخاصة – كقاريء وليس ككاتب – فأرى أن عظمة وروعة رواية التحوُّل قد وصلتا إلى أعلى المستويات، وحين تقرأها لن تجد نفسك إلا وقد تملكك الرعب، الرعب النفسيّ، بالإضافة إلى عدة مشاعر متضاربة. وتلك الرمزية القاسية التي تجعل بدنك يقشعر ويرتجف. ليس فقط لأنك اقتنعت تمامًا منذ السطر الأول أن بطل الرواية قد تحول فعلا إلى خنفساء، ولكن أيضًا بسبب الوصف الدقيق لمشاعره وأحاسيسه حينها.

الرمزية في رواية المسخ لـ فرانز كافكا

رواية المسخ ـ فرانز كافكا

ولا شك في أن الرواية رمزية بامتياز. وأول رمز فيها هو أن كل أحداثها ليس إلا إسقاط على حياة كافكا ذات نفسه، حتى اسم البطل فيها “غريغور سامسا” وهو الاسم القريب جدًا – نطقًا – من فرانز كافكا.

من الأشياء الرائعة أيضًا أن رواية المسخ أو التحوُّل، بها أحد أعظم افتتاحيات الروايات على الإطلاق، ومن خلالها استطاع فرانز كافكا وضعك كقاريء، في قلب الحدث من السطر الأول. حين قال بشكل مباشر:

 “ذات صباح، حين استفاق غريغور سامسا من أحلامٍ مزعجة وجد نفسه وقد تحوّل في فراشه إلى حشرة وحشيّة…”

ثم بعد ذلك بدأ في وصف دقيق لما شعر به حينها، وهنا أريد تسليط الضوء على الإسقاط الذي استخدمه كافكا في الرواية ليستخدم هذا الإسقاط في وصف حياته، حين كان يعامله والده معاملة قاسية، لدرجة أنه كان كثيرًا ما يصفه بالحشرة، مما ترسبت هذه الكلمة وآثارها في نفسه، واستقرت في قاعٍ لا قاع بعده، من المهانة والهوان. ولذلك كثيرًا ما تم الربط في صورٍ كثيرة بين فرانز كافكا وحشرة الخنفساء التي تحوّل إليها سامسا بطل رواية المسخ.

رواية المسخ ـ فرانز كافكا
رواية المسخ ـ فرانز كافكا

والد فرانز كافكا

وبالنظر إلى والده فلا أحد يعرف لماذا كان يعامله مثل تلك المعاملة، وهو السؤال الذي كان كافكا بنفسه لا يعرف إجابته. لكن ربما لأن والده كان تاجرًا ناجحًا، وكان يتمنى أن يصبح ابنه مثله ويحذو حذوه، لكن فرانز كافكا لم يحب يومًا ما كان يفعله والده، ولم يحب التجارة. ولهذا كان والده يراه فتى يعيش حياة بلا فائدة، وهذا كان أهم سبب جعله ينعته بـ “الحشرة” أو كائن طفيلي عديم الفائدة. كان هذا الوصف قاسيًا جدًا عليه. وبسبب هذه الكلمة كثيرًا ما بات فرانز كافكا على سريره يبكي ويئن في صمت. كاتمًا مشاعر سلبية كبيرة لتركد في داخله. وتكبر وتكبر، حتى جاء اليوم الذي انفجرت فيه وانفجر بها، فأنتج هذا المخاض كاتبًا سوداويًا أسر العالم والتاريخ الأدبي بكابوسيته.

أمسك حينها ورقة وقلم وبدأ في كتابة روايته “التحوُّل” والتي بدأها كما قلنا، بغريغور سامسا الذي استيقظ ذات صباح فوجد نفسه حشرة، خنفساء. دون أن يشرح لنا كيف حدث ذلك…! وسيجعلك تصدقه، بل وتتعاطف معه بكل حواسك.

العزلة والإنسان المنعزل في أدب كافكا

النقطة الأخيرة التي أود أن أشير إليها هنا هو أن فرانز كافكا كان دائمًا يصف الإنسان المنعزل، والذي تم فصله عن المجتمع وعن كل من حوله، وفكرة التحول هنا أو الانمساخ ليست إلا دليل جليَّ وواضح على هذه العزلة، وغريغور سامسا في الأصل رجلاً عاديًا جدًا، يعمل كمندوب يتجول على قدميه طوال النهار من أجل مرتب يستطيع من خلاله العيش هو وأسرته التي ينفق عليها. لذلك كان يجب عليه تسليط الضوء في رواية التحوُّل على رد فعل تلك الأسرة حينما يكتشفون أنه تحول إلى حشرة.

فرانز كافكا وميلينا

تقسيم رواية المسخ

استطاع فرانز كافكا بجدارة أن يجعلك منذ قراءة أول سطر في رواية التحول،  أن تفكر وتتسائل في قرارة نفسك،  ماذا سيفعل غريغور سامسا بعدما أصبح حشرة، وماذا سيكون رد فعل أسرته تجاهه، وكيف سيتحول مشاعر كل منهم ناحيته!

وحين تأملت تلك الرواية فقد استطعت تقسيمها إلى ثلاث أقسام”

القسم الأول: علاقة غريغور سامسا بوظيفته، وبرئيسه في العمل.

القسم الثاني: علاقته بأفراد أسرته، وبالأخص أخته.

القسم الثالث: علاقته بنفسه.

ومن وجهة نظري الخاصة، فإنني أعتقد أن فرانز كافكا لا يقصد بـ “التحوُّل” هنا، تحول غريغور سامسا من رجل عادي إلى حشرة على نحوٍ مفاجيء، وإنما تحول عواطف ومشاعر أفراد أسرته تجاهه، لدرجة أنه بدأ يشعر بينهم بالغربة والاغتراب، وهذا هو الشعور الأصعب على الإطلاق، لأن الغربة وسط عائلتك مؤلمة أكثر مليون مرة من الغربة بعيدًا عنهم… وعلى مدار أحداث الرواية يصف لنا التدرج في هذا الشعور وصولاً إلى مصيره المأساوي في النهاية.

رواية المسخ ـ فرانز كافكا

وصية فرانز كافكا بحرق أعماله

وحين نتطرق بحديثنا إلى نهاية رواية “التحوُّل” فقد كان فرانز كافكًا غير راضيًا عنها بشكلٍ كامل، ونفس الحال في روايته التالية “المحاكمة أو القضية” … وقد أخبر حبيبته فيليس في ذلك الوقت، في إحدى رسائله لها في عام 1912، قائلاً:

“اسمعي حبيبتي، لقد انتهت قصتي الصغيرة، لكنني لا أرتاح أبدًا إلى الخاتمة التي كتبتها اليوم، ولا شك أنه كان من المفترض أن تكون أفضل..”

وبعد سنة، قد حكم فرانز كافكا على هذه الرواية الرائعة بحكمٍ قاتل، حين انتهى من كتابتها بالكامل، وبعدما قرأها شعر أنها سيئة ولا تصلح، وهذا الشعور كان كثيرًا ما يعتريه، لدرجة أنه أوصى لكل من حوله بحرق كل كتاباته قبل وفاته. وفي مطلع 1914 أرسل رسالة إلى فيليس قائلاً:

“لديَّ كره كبير لرواية التحوُّل، أرى أن نهايتها لا تُقرَأ، وأنها غير كاملة حتى القاع تقريبًا…!”

هل عدم حرق أعمال فرانز كافكا خيانة لوصيته؟!

ولذلك، فقد يرى البعض أن قراءة أعمال فرانز كافكا هي خيانة له، لأنه قد أوصى صديقه “ماكس برود” قبل موته بحرق كل ما كتبه، ومن حسن حظنا أن ماكس برود لم ينفذ وصيته، ليقدم للعالم نموذجًا حقيقيًا للكاتب المأساويّ الكابوسيّ، مات دون أن يرى نجاحه هذا، ودون أن يعلم أنه يومًا ما سيكون رائد الكتابة الكابوسية والسوداوية في التاريخ الأدبي. وتلك الرواية القصيرة “المسخ” أو “التحوُّل” والتي لم يكن راضيًا عنها، ستقسم الأدب في أوروبا إلى قسمين… أو بالأحرى فترتين؛ فترة ما قبل المسخ، وما بعدها!

Franz-Kafka

لو انخرطت في الحديث عن فرانز كافكا لن أتوقف إلا بعد ثلاثة أيام، لكن للأسف، لكل شيء نهاية، وأحب أن أنهي حديثي في هذا المقال بنصحي لكم أن تقرؤوا هذه الرواية البديعة. وتتأملوها جيدًا. وتقرؤوا أيضًا عن رجل عاش مقهورًا في طفولته، كما عاش مقهورًا أيضًا في شبابه، حتى انتهت حياته نهاية كابوسية .. إنه رائد الكابوسية… فرانز كافكا.

Comments are closed.

رجوع
Telegram
Messenger
قناة اليوتيوب
Instagram